تشاكل التاريخ فـي العراق
(2) خلفاء وفقهـاء وخلعـــاء
د. سيّار الجميل
الثلاثية العراقية
إن الإنسان لا يمكنه أن يتخيّل أمة من الأمم تتصارع على ماضيها مثلما نعيشه اليوم في حياتنا ، خصوصا في العراق ، وهو أشرس حالة تمتع بها التشاكل التاريخي فيه كونه أخطر بؤرة تاريخية منذ القدم .. وإن المجتمع العراقي اليوم منقسم إلى ثلاثة أقسام ، كل قسم يؤمن إيماناً راسخاً بما خلّفه له تاريخ بعيد يمتدّ لأزمنة تعود في هويتها إلى العصور الوسطى ، بل وإن المجتمع اليوم يصارع بعضه الآخر من أجل ما يؤمن به كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة : قسم يؤمن بالخلفاء ، وقسم يؤمن بالفقهاء ، وقسم من الخلعاء يؤمن بأن الاثنين السابقين من البلهاء !
إن المشكلة ليست دينية أو عقدية بقدر ما هي مذهبية وتاريخية ، فربما يخالفني الآخرون في قولي ان كل الاديان والمذاهب والطوائف والفرق هي منتجات تاريخية ، فمن يعيش في خضمها يعيش تشاكل التاريخ ، ومن له قطيعة تاريخية مع الماضي ، فهو يعيش الحاضر بشكل سويّ ويفهم الماضي ويحترمه ويتعلم منه كونه قد انقطع عنه ! إن أي استخدام او توظيف للتاريخ بمثل هذا التشاكل سيخلق انقساما في المجتمع الواحد .. وقد غدت المشكلة اليوم في العراق "طائفية بامتياز " أي استخدام اجندة تاريخية ليس للشحن الطائفي كما اسميناه قبل سنوات ، وانما للاستئصال الطائفي بين من يؤمن بالخلفاء والامراء ضد من يؤمن بالائمة والفقهاء . ويعتقد كل من الطرفين ان هؤلاء جميعا لهم قدسيتهم وبراءتهم وملائكيتهم وانهم ليسوا بشرا عاديين ، علما بأن القرآن وصف الرسول وصفا طبيعيا ، فما هو إلا بشر ، أفإن مات او قتل انقلبتم على اعقابكم!
ولعلّ اقرب الناس الى حقيقة الحياة هم الخلعاء الذين لا يهمهم ابدا لا السلاطين والخلفاء ولا الائمة والفقهاء ! ولا يهمهم إن كان هناك قديسون ابرار او ملائكة اطهار ، فهم يؤمنون بأن الانسان أي انسان يخطئ ويصيب ، وان الحياة بالنسبة للجميع هي نسبية وليست مطلقة ، كي يغدو هذا وليا وفقيها وإماما معصوما ، وذاك خليفة وأميرا للمؤمنين ، والآخر ملاكا فوق مستوى البشر ! ولقد وصل الامر عند الشيعة لجعل الائمة من المعصومين ووصل الامر عند السنة لجعل بعض الصحابة مبشرين بالجنة !
إن العراق بوضعه الحالي يدركه من له فهم عميق لتاريخه الحضاري والسياسي ، وكنت اتمنى ان يكون ذلك لبنة اساسية في بناء تاريخ وطني موحد والذي تشكّل ليس من خلال الانكليز المستعمرين او الاتراك العثمانيين ، بل هو تاريخ مجتمع متنوع ومتعايش منذ مئات السنين وقد صادف تحديات قوية لا ترحم ، ونجح في الاستجابة لها كما تبلور عن صراع مستويات اجتماعية متلازمة في السراء والضراء .. وكان طوال التاريخ في حالة مدّ وجزر من الناحية الجغرافية ، وفي حالة طرد وجذب من الناحية السكانية ، فالأطياف فيه منها ما يزدحم طورا ومنها ما يتقلص طورا .. او آخر يضمحل وينتهي كاليهود مثلا ! وكل ذلك بتأثير عوامل خارجية تؤلبها عوامل داخلية باستفحال التشاكل التاريخي في المجتمع .
ضرورة القطيعة التاريخية للعراقيين بين التشاكل والتواصل
إن تاريخ العراق لم يبتدئ بفتوحات عربية إسلامية ، فلقد كان تاريخا ثريا بتعاقب الإمبراطوريات القديمة وعلى ارض العراق ولدت ونشأت الحضارات المتنوعة الاولى وتوالت المجتمعات في تشكيلاتها الاولى وآدابها واساطيرها وملاحمها الاولى .. إبان العصور القديمة . ثم برز العراق إبان العصور الوسطى مركزا حيويا في العالم وازدهرت تجاراته ومراكزه ومدنه وثقافاته وعلومه وآدابه وفنونه بالرغم من الخلاف على الزعماء والخلفاء وسياساتهم الداخلية واساليب معالجاتهم للمشكلات السياسية والفكرية التي واجهتهم ، ولكن غدا العراق عصر ذاك مركز حضارة عربية حقيقية استفاد العالم منها .. ثم مر العراقيون بتواريخ من التحديات والغزوات والاحتلالات والصراعات حتى ولادة التاريخ الوطني الذي زخر بالحركات الوطنية والافكار والثقافات والنخب والاحزاب السياسية إبان القرن العشرين ..
والقطيعة مصطلح فلسفي استخدم لدى البعض من العلماء المعاصرين في القرن العشرين ، وهو يعني فهم الشيئ والوعي به من دون تمثله او تقديسه .. والقطيعة التاريخية اقصد بها ان لا نبقى اسرى تاريخ مضى بكل ما حفل به سياسيا من تناقضات وحروب وانشقاقات وفرق واحزاب .. بل فهم ذلك والاعتناء به من اجل بناء مستقبل مشرق .. وهذا ما اكدّت عليه في فهم التاريخ السياسي ،هنا ينبغي ان اوضح وازيد بأن مفهوم القطيعة التاريخية لا يعني اننا نجتث انفسنا عن ماضينا ونقطع ذاكرتنا التاريخية عن جذورنا ، بل تعني في الحقيقة فهمنا بتاريخنا والوعي بتجاربه ومحاولة خلاصنا من المشكلات العالقة حتى اليوم .. وخصوصا في تواريخنا الفكرية والسياسية ، بعيدا عن تاريخنا الحضاري والثقافي الذي لا يمكننا ابدا الانسلاخ عنه ، بل التواصل معه لا التشاكل فيه !
لقد بدأ العراق دولة اعتُرف بكيانها السياسي عام 1921 برضى العراقيين جميعا ، وتطورت يوما بعد يوم مؤسساتها ، وحكمتها طبقات سياسية على عهود مختلفة سواء في العهد الملكي ام العهد الجمهوري ام العهد البعثي ،وقد انتهت الدولة عام 2003 بالاحتلال الامريكي وتنصيب طبقة سياسية جديدة للحكم اختلفت سياساتها عن سياسات الطبقات الحاكمة التي سبقتها في القرن العشرين ، اذ تباينت اجندتها عن الاجندة الراحلة . ومنذ العام 2003 وحتى اليوم والعراقيون يشهدون تشاكلا تاريخيا مفضوحا بين ألوان الطيف الاجتماعي ضد رموز واماكن ومعابد تاريخية متنوعة ، فكم من النصب والتماثيل سحقت ، وكم من دور العبادة والجوامع فجّرت ، وكم من اللوائح والآثار سرقت ، وكم من المتاحف والمعارض دمرت ، وكم من المعالم الحضارية غيرت ، وكم من المكتبات والارشيفات احترقت ، وكم من الاسماء تبدّلت ؟؟؟ ومن خلال معاينتنا لما جرى ولم يزل يجري حتى الآن وسيبقى الحال على ما هو عليه ، فان كلا من السّنة والشيعة معا يتشاكلان تاريخيا في هذا ، ليس بسبب افضلية عقيدة كل طرف على الآخر ، بل بسبب صراع كل من الطرفين على احتكار السلطة .
ضرورة الإدراك المتبادل
إن العراق لا يمكن ان يحتكره طرف على حساب اطراف اخرى ، وان العراقيين بحاجة ماسة الى ادراك متبادل بينهم وبين اطيافهم لتقدير كل طيف رموز الطيف الآخر .. واذا كانت هناك تسميات تاريخية لرموز عراقية قد اطلقت على شوارع وأحياء ومدن ومحافظات ومعسكرات وافواج ومعارك وصواريخ وجسور ومدارس ومطارات وحدائق .. الخ فان الناس في العراق على امتداد عشرات السنين الماضية قد ترسخت في وجدانها تلك الاسماء المقترنة بأماكنها ، ولم يكن هناك اي اعتراض عليها منذ اكثر من ثمانين سنة ، كما لم تعترض عليها لا المراجع الدينية ولا القوى السياسية ولا زعماء المجتمع ، ولم يسجل اي موقف سخط او اعتراض منذ سبعين سنة على تلك " التسميات " . فلماذا يتم الاعتراض اليوم بشكل مثير للنقمة والإثارة والشحن الطائفي وكأن الأمر جديد ووليد منذ ايام في الحياة العراقية ؟ هل اكتشف العراقيون اليوم فقط ان اصحاب بعض الاسماء التاريخية هم من القتلة والمجرمين ؟ علما بأن مثل هذه الدعوات التي تطلق اليوم من قبل البعض لا تمثل ابدا رأي ملايين العراقيين الذين يعتبرونها جزءا من الشحن الطائفي للتنكيل بالمجتمع وسحقه وتوسيع الشقة بين ابنائه اليوم . ولا اعتقد ان مثقفا عراقيا حقيقيا ينزل بمستواه كي يتشاكل طائفيا مع عراقي آخر ، ذلك ان هموم المثقف الحقيقي معاصرة لا تمت بصلة الى مشكلات سياسية حدثت قبل اكثر من الف سنة ! ولا افهم كيف يتساوق فهم مثقف حقيقي مع ضحالة رجل دين ويتعصب مثله ويدعو معه لدعوة طائفية ماكرة !
إن امثال هؤلاء الذين يريدون تمزيق العراق يخلطون الامور ، بإثارتهم هكذا قضايا معقدة في التاريخ الذي حوى خزينا هائلا من التناقضات ، وهو التاريخ الذي اختلطت فيه السياسات والثورات بالعقائد والطقوس والافكار والنصوص .. هم لا يعرفون من التاريخ إلا المتداول الشعبوي ، ولكنهم بعيدون عن تفاصيله وجزئياته ، إنهم يضيعون في متاهاته ان دخلوا فيها ، ولكنهم يتخذون مواقفهم الصعبة والساخنة وهم واقفون عند الهوامش والحواشي والضفاف الضحلة .. ان ما يحركهم سايكلوجياتهم لا عقولهم ، بل انهم بوازع او اكثر من عواطفهم يخلطون بين قضايا التاريخ المعقدة بالعقائد والطقوس .. انهم يعيشون القرن الحادي والعشرين ، لكنهم يقتاتون على الافكار البدائية البالية التي انتجتها العصور الوسطى .. وهناك من يدرك الحقيقة ، لكنه يخفيها إما خوفا ، او تلبية لمشاعر جمعية ، او ارتباطه بحنين عاطفي وسايكلوجي بمن رددها على مسامعه ، او انه يخشى على مصالحه الشخصية .. انه يخفي ويبطن عواطفه تبعا للظرف الذي يعيشه او البيئة التي يقطن فيها .. انه يخفي الحقيقة ويعتقد بأن من يخالفه الرأي والاعتقاد كافر او ناشز او ظالم .. او انه يجد بأن مصلحته تقضي بخلق " هوية جديدة " له لتميزه عن الآخرين وهم ابناء وطن واحد .. ان مجرد خلق هوية متفوقة سايكلوجيا وعقائديا على المواطنة تكفي لزرع الفتنة وبث روح الحق والكراهية في المجتمع ..
الهويّة الوطنية تأكل الهويّات الأخرى
إن الضرورة تقوده لإيجاد أسانيد لأي هوية يتخذها له لمزاحمة الهوية الوطنية ، فيبدأ يؤشكل التاريخ ويجعل كل عفن التاريخ والماضويات البالية مجموعة اساطير ورموزا ، بل يتخذها ضرورات مقدسة له ، ويجعلها ملتصقة به وكأنه يعيش مأساة حدثت قبل الف سنة ، او يحيا لكي ينتقم من اناس قتلة لا وجود لهم في الواقع .. بل يعتقد اعتقادا راسخا ان الثارات تؤخذ لاحقا ! بل وان صراعات الماضي السياسي يجعلها صراع المجرمين ضد المقدّسين ، بل ويعتقد اعتقادا راسخا انها صراعات الشياطين مع الملائكة .. انه يخرج عن واقع تاريخ كان يتصارع من اجل السلطة والنفوذ خلفاء وفقهاء .. ان مجرد الانتقال بالمجتمعات الحديثة الى هذا النوع من التشاكل التاريخي سيخلق مجتمعا مفككا لا وحدة وطنية فيه ، وانه سيثير الاطراف الاخرى لتجديد صراعات لا معنى لها ابدا ، بل وإشعال حروب تأكل الاخضر واليابس .. ان ما يعيشه العراق اليوم من تشاكل تاريخي بليد هو واحد من نتائج عملية سياسية بليدة زرعت الثارات والمحاصصات في حياة المجتمع ، وبقدر ما اشاعوا عن التنوع والتعددية في مجتمع اليوم ، إلا انهم في الحقيقة نفوا الاساليب الحديثة بتبلور مجتمع حر .. لقد خلقت سياسات اتبعت لأكثر من عشر سنوات في العراق بنفي مجتمع متمدن متنوع ذكي ، اذ جعلت تلك السياسات احتكار طبقة معينة للسلطة واحتكار طائفة معينة للسلطة ، واحتكار طرف واحد للتاريخ بخلق التشاكل فيه ..
للبحث صلة ( انتظروا الحلقة الثالثة ) ..
نشرت في جريدة المدى ، 27 حزيران / يونيو 2015 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيّار الجميل
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire